الثلاثاء، 26 يوليو 2016

لماذا تخلف النوبيون في المجال الصناعي؟

عرفنا في وقت سابق لماذا تخلف النوبيون في المجال الزراعي. واليوم نتعرف لماذا تخلف النوبيون في المجال الصناعي.
في كتابه الرائع " فن صياغة الحلي الشعبية النوبية", 1981, يشير الدكتور على زين العابدين إلى بعض أسباب تخلف النوبيون في المجال الصناعي أهمها تلك التي تتأثر مباشرة بالقيم الثقافية.
مقدمة
نعني بـ "القيم الثقافية" تلك المشاعر والأحاسيس والأفكار والمعتقدات والمواقف والاجتهادات والتطلعات والرغبات التي تملاً فكر الإنسان والتي يكتسبها من البيئة والمجتمع وتشكل عوامل حاسمة في عملية تسيير التنمية وتوجيهها.
يقول د. محمد الرميحي أنه إذا كانت الأدوات الهامدة (الطبيعية) لا تقاوم مستخدميها، ولا تمتعض منهم ولا تجفل. فإن الإنسان تاريخ, وهو لا يستطيع تطوير كل موروثاته الثقافية، بل قد تقف بعض الموروثات عقبة أمام بعض الخطوات التنموية.
نعود إلى الدكتور زين العابدين الذي يرى أن نفور النوبيون من بعض الأعمال الحرفية أو الصناعية, ذلك النفور الذي نتج عن ثقافتنا, هو سبب تخلفنا في المجال الصناعي. فيذكر في ص 239 من كتابه المذكور آنفاً, أنه "لم يكن المجتمع النوبي في الماضي القريب – العصر الحديث – مجتمعاً صناعياً أو حرفيا, فكل الدلائل تشير إلى أن الحرف كانت قليلة وأغلبها لا يمارسها أهالي النوبة أنفسهم, بل يمكن القول أنهم ينفرون من ممارسة الكثير منها, ويكادون لا يعرفون سوى الزراعة البسيطة وتربية الماشية".
وفي ص 243 يرى أن بعض الصور التي رسمها ريفو (1820) عن النوبيين والنوبيات في احتفالاتهم, نلاحظ أن النساء يتحلين بالحلي التي تبدو كالمصاغ الفضي أو الذهبي, غير معروفة المصدر, أهي مستوردة من مصر, أم هي من صناعة صياغ النوبة ؟ ولو "إن هذا الأمر الأخير يبدو في ظاهره بعيد الاحتمال نظراً لعدم تقدير أغلب أهالي النوبة لمثل هذه الحرف ومن يحترفها, إذ يعتقدون أنها تحط من شأن الرجل الذي يعمل بها وينظرون إليه نظرة فيها كثير من الدونية".
ويذكر أن الحرف في المجتمع النوبي تنقسم إلى نوعين من حيث نوع الشخص الذي يمارسها, وهي الأعمال التي يمارسها الذكور, والأعمال التي تمارسها الإناث. وفي الوقت ذاته تنقسم الحرف التي يمارسها الذكور إلى نوعين: الحرف التي يمارسها النوبيون, وأخرى لا يقبلون على ممارستها وإنما تترك لأشخاص من خارج المجتمع النوبي. والأخيرة هي الحدادة وصناعة الطوب والنسيج وأعمال النجارة الخاصة بصنع الأثاث وتصليحه, والعمل الزراعي مقابل أجر, بالإضافة إلى صيد السمك بغرض البيع الذي كان في النوبة الأصلية. ص 243.
كما كان رجال من قرى صعيد مصر يتجولون في القرى النوبية الأصلية, مثل صائدي الأسماك والحدادين وصانعي الطوب والنجارين والنساج والحلاقين ليقدموا هذه الخدمات, وكان النوبيون يطلقون في الماضي على هؤلاء الأشخاص "الحلب" . واستمدت هذه الحرف خاصيتها التي ألصقها النوبيون بها من المنزلة والمكانة الاجتماعية المنخفضة للأفراد الذين كانوا يمارسونها في الماضي بحيث أصبح النوبيون يرفضون ممارستها. فإن ممارسة النوبي لإحدى هذه الحرف كفيلة بأن تجعل منزلته الاجتماعية تدنوا إلى منزلة أصحابها, فالنوبيون عامة يظهرون كثيراً من الشعور بالاحتقار إلى هذه الحرف ويعتبرون من العار أن يمارس النوبي إلية حرفة منها لأن ذلك كفيل بأن يخفض منزلته الاجتماعية. ص 244.
كما أن لفظ أجير الذي يوجهه الشخص للأخر يثير النزاع الذي يصل إلى العنف لما يتضمنه من معنى التبعية والعبودية والسخرية. لذلك يرفض النوبيون تماماً العمل لدى الغير مقابل الأجر بالرغم من شدة حاجة الزراعة في القرى الجديدة إلى الأيدي العاملة. ص 245.
والملاحظة الأخيرة في منتهى الخطورة, إذ كلمة "الغير" هنا لا تعني كل الآخرين, بل تقتصر على أهله النوبيين! فالنوبي هنا لا يقبل العمل لدى نوبي آخر مقابل أجر, ويقبل أن يعمل لدى غير النوبي في أعمال أخرى وفي أماكن أخرى, لا تعود بأية فائدة تذكر على منطقته النوبية التي هي في حاجة ماسة وضرورية له كما سنرى لاحقاً. هذا من جهة, ومن جهة أخرى, يبدو تأثير هذه القيم (رفض النوبي العمل بأجر لدى نوبي آخر) وبالتالي رفض النوبي إعطاء أجر لنوبي آخر مقابل خدمات يقبل على دفع مقابل لها إذا قدمها له غير النوبي, مثال ذلك الخدمات الإعلامية مثل الصحف والمجلات ومواقع الإنترنت النوبية, الأمر الذي أدى إلى توقف تلك الخدمات بعد وقت قصير من بدئها, أو عدم تطورها إذا استطاعت أن تستمر كما هو الحال في النشاط الثقافي والإعلامي في الجمعيات النوبية.
كل هذه الأسباب وغيرها أدت إلى هجرة الشبان والرجال القادرين على العمل, الذي ترتب عليه عدم وجود كثير من الحرف أو الصناعات في بلاد النوبة حيث أن الحرف والصناعات تحتاج إلى أيدي عاملة نشطة شابة وهذه الأيدي تنزح إلى الخارج. فإذا بلغ عدد سكان منطقة النوبة الأصلية حوالي 99 ألف نسمة فمنهم حوالي 50 % مغتربين عنها سعياً وراء الرزق. ص 241.
كما أن " نسبة عدد الرجال المقيمين في القرى الذين تقع أعمارهم بين 15, 40 عاماً تبلغ 25.2% من جملة عدد السكان"! ونسبة الإناث اللاتي كن يعملن بالزراعة في النوبة الأصلية (القديمة) 54.5% ! ص 241.
وإذا أضفنا إلى ذلك عدم توفر العوامل التقليدية لقيام الصناعة في النوبة الجديدة مثل الأيدي العاملة الماهرة, والمواد الأولية .. الخ. لعرفنا سبب عدم قيام أي صناعة في النوبة الآن. علماً أن كثير من الجماعات استطاعت أن تقفز على هذه العوامل لتضع نفسها في مصاف الجماعات المتقدمة مثل تجربة قرية البسايسة المصرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق