الاثنين، 28 سبتمبر 2009

لقاء د. فكري حسن سليم

السيرة الذاتية للدكتور فكري سليم:
- حصل الباحث/ فكري حسن سليم, على دبلوم المعلمين, شعبة تربية موسيقية من أسوان, 1966, وكان الأول على الجمهورية.
- حصل على البكالوريوس, 1970, وكان الأول على الدفعة في الكلية أيضاً.
- حصل على ماجستير في الأغنية الشعبية النوبية, 1978, بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى.
- حصل على الدكتوراه, 1995, في موضوع الأغنية الشعبية النوبية وعلاقاتها بالتراث الشعبي السعودي.
- سافر عدة دول لتمثيل جمهورية مصر العربية : ألمانيا, هولندا, وسويسرا, وقدم باقة من الأغاني الشعبية النوبية بها.
- يقوم حالياً بالتدريس بالمعهد العالي للفنون الموسيقية بالكويت.

أهم عناوين اللقاء:
- دخلت المعهد العالي للموسيقى بالصدفة
- كنت أطمح أن أكون الأول على الجمهورية .. وكل أساتذتي أوصلوني إلى مكانتي هذه
- السلم الخماسي ليس إبداعا سودانياً

مقدمة:
الموسيقي تحلق بمن يستمع إليها إلى آفاق سرمدية جميلة وساحرة، ولكن كما يقول د.فكري سليم، يصعب على المستمع غير المتخصص التمييز بين الإيقاعات المختلفة، أو تحليلها، أو معرفة جذورها. ورغم ذلك كل فرد ممكن أن يرقص طرباً عندما يستمع إلى موسيقاه الشعبية حتى دون إرادة منه!

رحلة البداية من غزة إلى أسوان

- حدثنا عن البدايات ... هل دار المعلمين كان في أسوان؟
- نعم في أسوان. أنا من قرية الدر والديوان. جئت إلى أسوان من غزة مع أبي. ولما كنت وقتئذ في السادسة من عمري ، اقترح عمي أن يلحقني بمدرسة بأسوان، ووافق أبي على ذلك، وكانت أوراقي مازالت في غزة، لذلك كتب عمي للمدرسة تعهداً بإحضارهم من غزة. أقصد أن أقول أنني في أسوان نشأت على التقاليد النوبية ... كان عندي 13 أو 14 سنة، وأصبحت نوبي أصيل حيث تربيت في بيت نوبي أصيل، بيت د.أحمد فهمي، الذي كان وكيلا للمنطقة الطبية، وكان أخيه وكيلاً للمنطقة التعليمية، والاثنان كانا أعمامي. ونشأت بذلك في أسوان بمنشية النوبة ... إحدى الأحياء التي أنشئت بعد الهجرة الثالثة ... فبعض النوبيين جاءوا إلى منشية النوبة، وبعضهم في حكاروب، وبعضهم ذهب لإسنا، وبعضهم في دار السلام. وجاءت نشأتي في منشية النوبة ودار السلام. دار السلام أهل والدتي والمنشية أهل والدي. وكنت أقضي أيام المدرسة في منشية النوبة، وفي أجازة الصيف عند أهل والدتي بدار السلام.

- هل قوبلت رغبتك في دراسة الموسيقى بالرفض في البداية؟
- نعم. والدي رفض اختياري لدراسة الموسيقى. وسألني لماذا اخترت الموسيقى. وكان ردي أن هذه رغبتي، وتركني على ذلك. وبذلك فقد وافق على مضض. أما عمي د. أحمد فهمي فقد طلبني عندما سمع من خالتي، وهي زوجته في نفس الوقت، تصرخ بعد أن أخبرتها أنني التحقت بقسم التربية الموسيقية بدار المعلمين. وسألني هل اخترت التربية الموسيقية، قلت له نعم، فقال: هل أنت مقتنع؟ قلت له: نعم، قال لي: هل عندك الموهبة، قلت له: نعم، قال: على بركة الله. وقبلت خالتي بالأمر الواقع. ولم تعد تسمع عني إلا في نهاية كل عام أنني الأول.

دخلت المعهد العالي للموسيقى بالصدفة

- هل تفوقك هو الذي دفعك إلى الالتحاق بالمعهد العالي للموسيقى بالقاهرة ، في الوقت الذي آثر كثير من خريجي دار المعلمين النوبيين، في ذلك الوقت، للعمل بالتدريس بأسوان والنوبة؟
- كان دخولي المعهد العالي بالصدفة ! فلم يكن والدي قادراً على مصاريف الدراسات العليا. وأثناء مروري بجوار المعهد، وكنت أتمنى الالتحاق به. قلت لنفسي: لأحاول. وسألتني أمينة المكتبة والتي تشرف على الامتحانات الخاصة بالمعلمات والمعلمين: ما هو ترتيبك في الدفعة؟ قلت لها: ترتيبي الأول، قالت : أنت الأول على الثمانية وأربعين ! وكان عدد المتقدمين ثمانية وأربعين طالب وطالبة في ذلك الوقت ... فقلت لها: نعم . وبذلك أدخلتني على العميدة الله يرحمها ... وأخبرتها أنني الحاصل على المركز الأول على الدفعة، فطلبت منها أن ادخل امتحان القدرات، ودخلت الامتحان. وانبهرت الأستاذة التي تجري لي الامتحان، وكانت ألمانية، واسمها الدكتورة مارتا روي، التي قالت للعميدة : أنه يحس بالنغمة بمجرد ما اعزفها ... وطلبت العميدة أن أدخل امتحان الكمنجة. ودخلت الامتحان، وأثنى الأستاذ الممتحن على أدائي، وهكذا انتقلت من امتحان السيكولوجي والشرقي، حتى قالت الأستاذة المشرفة: أنت هايل !
- وماذا كان رد فعل عميدة المعهد بعد كل هذا الإطراء على أدائك؟
- كان رد فعلها جميلاً، حيث قالت لي: أنني سأقبلك من غير ما تقدم ورقك. وأن أقدم ورقي على مهلي. ورغم الفرحة الغامرة ... فقد تذكرت ظروفي ... وقلت لها: أنا لدي شرط ... هل هناك منحة تفوق أم لا ؟ فطلبت مديرة شئون الطلبة التي قالت: له 15 جنيه منحة تفوق كل شهر ... بشرط أن يحافظ على تفوقه وامتيازه كل عام ... وطبعاً كان المبلغ كبيراً في ذلك الوقت ... وطلبت منها أن أرجع إلى السنة الأولى بدلاً من الثانية ... لأتقن الموسيقى أكثر ... وردت بأن هذا الطلب كان أفضل شئ قلته في هذا اليوم! وقد كان . وحصلت على المركز الأول على القسم، والثالث على جميع الأقسام في السنة الأولى، ثم الأول على القسم وجميع الأقسام في السنة الثانية، وكذلك في الصف الثالث، وفي الصف الرابع كنت الأول بفارق كبير بيني وبين الأوائل في جميع الأقسام. وعينت معيداً لمدة طويلة، ثم قابلت النوبية التي تزوجتها وكانت طالبة عندي.

تعلمت قراءة النوتة في المعهد العالي
- كل محب للموسيقى يعشق آلة أو جهاز معين ... حتى في وقت فراغه يستعمل هذا الجهاز حتى لو كان في البيت... ألم يكن ذلك يسبب إزعاجا لمن يعيشون في البيت؟

- كنت في أيام الدبلوم أتمرن على البيانو والترومبت، أما الآلة الأساسية كانت الأكورديون، وكنت متفوقاً في البيانو، وكنت أعزف عليه طوال النهار.

- وهذه غير موجودة إلا في المعلمين؟

- نعم في المعلمين. ولما التحقت بالمعهد العالي اختارتني المودموزيل كارووز، وكانت ايطالية، لأنضم إلى الفصل التي تدرس فيه، ولم أكن حتى ذلك الوقت أقرأ النوتة، فبدأت تعلمني النوتة على أصولها، وبدأت أعزف وأنا أقرأ النوتة . والآلة الثانية التي عشقتها كانت الكمنجة، وكنت أحملها معي للبيت أو في سكن الطلبة التي تتبع محافظة الجيزة في إمبابة. أما البيانو فكنت أذاكر عليه حتى السابعة مساء في المعهد كل يوم.

- معنى كده أنك في فترة دار المعلمين لم تكن تقرأ النوتة؟

- نعم ..

- والاعتماد على الأذن فقط تكون مقبولة !

- المفروض اني أتعلم نوتة، ولكن أساتذة الدار لم يدرسوها لنا . وأعتقد أن السبب كان أن الأساتذة القادمين إلينا في أسوان، كانوا يرون إنهم مغضوب عليهم. الأستاذ نصيف والأستاذ أبو طالب والأستاذ عبدالله. وكان أغلبهم من فرقة موسيقى الجيش ... وبالرغم أنهم كانوا شاطرين في قراءة النوتة ... ولكنهم لم يهتموا بتعليمها لنا.

- ما هي ذكرياتك في دار المعلمين؟

- أنا أدين بالفضل إلى كل العمداء في دار المعلمين العميد محمد علي والعميد محمد كمال منصور وكل الأساتذة الذين أوصلوني إلى مكانتي هذه. وكنت أطمح أن أكون الأول على الجمهورية رغم أنه لم يكن عندي خلفية ولا عندي الدراسة ولا الأساس.

الموسيقى النوبية نبع لا ينبض!

- باسم غير المتخصصين في الموسيقى أتحدث الآن ... فعلى سبيل المثال أمامنا في التليفزيون الآن بالصدفة مهرجان موسيقي عالمي، لولا أن الفرقة تقوم بتغيير ملابسها بحيث أعرف أن ما سيقدمونه أمريكي لأن أحدهم يلبس ملابس الكاوبوي مثلاً، أو أفهم أن ما سيقدمونه أسباني من ملابس مصارع الثيران وهكذا .. أما المستمع العادي للراديو وغير المتخصص، كيف له أن يعرف أن هذه الموسيقى انجليزية أو هندية أو نوبية ... الخ لو اعتمد على سمعه فقط؟

- طبعاً ... المستمع العادي صعب أن يعرف أن هذه الموسيقى هندية وأن هذه الموسيقى فرعونية وهذه نوبية ... إنما أنا بصفتي مدرس تحليل الموسيقى، فأي موسيقى اسمعها أعرفها ... سألتني عن الموسيقى التي انتهت تواً في التليفزيون قلت لك سامبا، وهي خاصة بسكان أمريكا اللاتينية، وذكرتها لك من جذورها، أما هذه فموسيقى هندية، وقبلها عزفوا موسيقى أوروبية وموسيقى يونانية ... والموسيقى اليونانية تنتمي للموسيقى الأوروبية ... قاموا بعزف زوربا اليوناني ... أنا كمدرس تحليل في معهد الموسيقى اقدر أعرف... أما الطلبة أو المستمع العادي صعب أن يميز بين الإيقاعات المختلفة، ويحتاج إلى وقت طويل ليسمع ويتذوق ويبدأ في تمييز هذه الموسيقى عن تلك... وهكذا..

الدولة الفرعونية هي التي بعثت السلم الخماسي وسلمته للنوبة

- يقال لنا أن هذا الاختلاف نتيجة لأن هذا سلم خماسي والآخر سباعي ... مثلاً الموسيقى السودانية بمجرد أن نسمعها نعرف أنها موسيقى سودانية .. وهل السلم الخماسي فقط في السودان ؟

- لا السلم الخماسي ليس في السودان فقط .. وإنما في اندونيسيا وجاوا وكوريا واليابان وبعض أجزاء من الهند وطبعاً موجودة في إفريقيا ... وكذا دول منابع حوض النيل وفي جبال النوبة ... ولكن اعتقد أن الدولة التي بعثت السلم الخماسي هي الدولة الفرعونية، وسلمته للنوبة وبدأت تنتشر بعد ذلك.

- أي أنه ليس إبداعا سودانياً؟
- لا .. لا ... إنما السودانيون حافظوا عليه، ونحن النوبيين حافظنا على السلم الخماسي إلى وقت قريب ... ثم بدأنا باستخدام السلم السباعي ... إنما أصلاً السلم الخماسي هو أصل الموسيقى النوبية ... الماتوكية كانوا يغنون خماسي ... وبدءا من الخمسينيات استخدموا السباعي ... النوبيين الفاديجا يغنون خماسي حتى الآن، ومع بدء إدخال الأورج استخدموا السباعي ... يعني بدءوا من خمس أو ست سنين ... وطبعاً هذا سيؤدي إلى أن أننا سنفقد السلم الخماسي ...وفي السودان أيضاً بدأ محمد الأمين يُدخل السلم السباعي ... أما الموسيقى السودانية ككل، أي حوالي 90% مازالت خماسي و10% فقط سباعي ... وفي الموسيقى الفاديكية فإن حوالي 30% ادخلوا السلم السباعي ... و70% سلم خماسي ...

أنا الوحيد الذي أدرس الموسيقى النوبية في الوطن العربي
- ليس لدينا كنوبيين أكاديمية نوبية ... ولكنني سمعت أن جمعية التراث تحتفظ بتسجيلات موسيقية نوبية قديمة ... هل المعاهد والكليات التي تدرس الموسيقى في مصر أو العالم العربي تهتم بالموسيقى النوبية؟

- لا ... فهم لا يدرسون السلم الخماسي...

- ولا يحتفظون به ضمن التراث العربي أو العالمي؟

- للأسف ولا ضمن التراث العالمي! أنا فقط ادرس السلم الخماسي هنا بالكويت حباً في موسيقانا ... وأدرسه هنا ... وكنت أدرسه في مصر ... وليس هناك غيري يدرسه! ... ولم يصل إلى علمي أن أكاديمياً آخر يعرف موسيقانا النوبية أو حتى يحاول أن يعرفه! .... وإذا كانت هناك بعض المحاولات على استحياء من بعض الأساتذة للتعريف بالموسيقى النوبية، فهم لا يقدمون تمارين عليها ... لأن أكثرهم لا يعرفون السلم الخماسي.

- حتى الناحية المكتبية لا توجد ... مثل التسجيلات وغيرها ... أعرف أن كل كلية تحاول أن تجمع المراجع الخاصة بتخصصها بقدر المستطاع !

جدتي عندما كنت اسمعها السباعي لم تكن تعجبها لأنه ليس من تراثها!

- تسجيلاتي كلها أنا أهديتها لمكتبة المعهد ... وكذلك الدكتورة مارتا روي كانت مهتمة بالموسيقى النوبية واهدت المكتبة بعض التسجيلات لحمزة علاء الدين ... وحمزة عمل جزء خماسي وجزء سباعي ... الجزء الخماسي هو الجميل ... الجزء السباعي فليس جميلاً ... لدرجة أن جدتي الله يرحمها كنت عندما اسمعها اسطوانة حمزة علاء الدين ... الجزء الخماسي للموسيقى النوبية كانت ترقص بفطرتها دون علم أو دراسة ... وعندما اسمعها الجزء الثاني السباعي لم تكن تعجبها لأنه ليس من تراثها !

- هل معنى ذلك أن الإنسان العادي ممكن أن يتجاوب بموسيقى تراثه ؟

- هذا واضح جداً.

رسالة الماجستير والدكتوراه عن النوبة

- رسالتك للماجستير كانت عن الموسيقى النوبية، وكذلك رسالة الدكتوراه، ومازلنا نسمع مَنْ يُعد رسائل أخرى عن الموسيقى النوبية. هل الموسيقى النوبية غنية جداً بحيث تحتاج إلى كل هذه الرسائل؟

- نعم غنية .. غنية جداً ... هناك دكتوراه قدمتها الأستاذة سهير طلعت عن الأغاني النوبية، وكذلك زوجتي تحقق في الفرق بين السلم الخماسي والسلم السباعي في الموسيقى النوبية ومازال المجال مفتوحاً لمزيد من الدراسات.

- قبل ما نتكلم عن الرسائل الأخرى ... كيف يستفيد القارئ غير المتخصص من فلسفة الموسيقى النوبية في رسالتك الأولى للماجستير؟

- أعتقد حتى الآن أنني أخطأت في رسالتي للماجستير. فكان المفروض أتناول جزء صغير من الموسيقى النوبية، ولكنني دخلت بجزء كبير جداً. عملت دراسة عن الأغنية الشعبية النوبية، وكان المفروض أخذ فرع منها، مثل أغاني الزيجات أو السبوع ، ولكن أخذتها ككل فأخذت مني وقتاً طويلاً جداً ، مدة تسع سنوات. حتى أن لجنة التحكيم التي كانت تضم الدكتورة عائشة صبري شكرتني على الرسالة والمجهود الذي بذل فيها. كذلك لم تجد اللجنة بإزاء الرسالة إلا الشكر. أنا متعود أن أرى مناقشة الرسائل كلها نقد في نقد، ولكنني فوجئت أن اللجنة تشكرني، لدرجة أنني بكيت من كثرة الشكر خاصة تلك التي وجهها رئيس تحرير آخر ساعة وقتئذ وكان عضواْ في اللجنة .

- هل في الإمكان أن يعزى ذلك إلى أن رسالتك كانت الرسالة الأولى عن الموسيقى النوبية؟

- نعم ... نعم!

- أعتقد أن هذا دائماً يكون نصيب الرسالة الأولى أنها تكون كبيرة وشاملة، وبعد ذلك يبدأ تناول فروعها فرعاً فرعاً. وهذه ضريبة الرسالة الأولى. نعود لرسالة الماجستير، هل القارئ العادي يمكنه فهمه لو قام بالاطلاع عليها؟

- طبعاً الرسالة متخصصة بعض الشئ، وتتناول مواضيع بحثية كثيرة ومواضيع موسيقية كثيرة، يصعب على القارئ العادي فهمها، لذلك يجب أن أعد طبعة منقحة أخفف منها اللغة التخصصية، لتقريبها لذهن القارئ غير المتخصص في الموسيقى.

- هذه المحاولة لم تنجز بعد!

- لا لم تنجز ... وأكثر من مرة طلب مني الأستاذ محيي الدين شريف وغيره أن أنقح الرسالة وأطبعها ... لكن الوقت لم يسعفني..

- هل نفس المشكلة سنواجهها في رسالة الدكتوراه؟

- نعم ... فهي متخصصة جداً جداً .