الجمعة، 22 يوليو 2016

القرابة نعمة أم نقمة


قال تعالى: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى .."

          القرابة موضوع هام وكبير،  شغل السياسيين والمفكرين وعلماء النفس وغيرهم من زمن طويل.  ثم أصبح علما بذاته، هو الانثربولوجي.  يقول العالم بنيدهام: "إذا سأل عما يفعله الأنثربولوجيون الاجتماعيون، لكانت دراسة القرابة حتما هي الإجابة".
          والأقارب هم عصبة الفرد،  إلا أن تعريف ابن خلدون للعصبة أوسع معنى من المألوف. فالعصبة عنده تضم فئتين، الأولى هم الأقارب العاصبون، الذين يجمعهم الانتماء الواحد المشترك إلى سلف واحد، هو مؤسس العصبة، وتتسمى في الغالب باسمه. والثانية تشمل الأعضاء الحلفاء والموالي والأتباع، منهم من يرتبط بالفئة الأولى عن طريق الأم، أو يرتبط به.

ما فائدة الأقارب أو العصبة ؟
ولماذا ضعفت الروابط بالأقارب في العصر الحديث؟
          يؤكد ابن خلدون على أهم حاجتين للإنسان، أولهما الحاجة إلى الطعام، وثانيهما الحاجة إلى الأمن والحماية.
وإذا كانت الحاجة إلى الطعام واضحة، إلا أن الحاجة إلى الأمن والحماية وعلاقتها بالأقارب غير واضحتين خاصة لساكني المدن في العصر الحديث.  وذلك لأن هاتين المسألتين توكل إلى آخرين ليسوا بالضرورة أن يكونوا أقارب لنا بالمعنى الضيق لمعني القريب. ولكنهم أبناء وطننا الذي ننتمي إليه.  فالوطن أو الدولة الحديثة توفر لنا الأمن والحماية من خلال رجال الشرطة والجيش،  كما يوفر لنا آخرون من أبناء الوطن سبل التكافل الحديث من خلال شركات التأمين والجمعيات الخيرية والأوقاف وغيرها من المؤسسات الوطنية.  وما وفره الوطن من الأمن والحماية هي إحدى أسياب ضعف العلاقة بين الأقارب في المدينة والريف كما يذكر ابن خلدون. كما أن ما وفرته بعض الدول في العصر الحديث من دخل لكل المواطنين منذ ولادتهم كانت من أسباب ضعف العلاقة بين الأبناء والآباء كما صرحت بذلك احدى منظمات الأمم المتحدة.

          يؤكد ابن خلدون على أسباب أخرى رآها في المجتمع الحضري في عصره، ومازالت موجودة حتى الآن،  كانت سببا في ضعف العلاقة بين الأقارب، منها غلبة المصالح الشخصية على مصالح العصبة، ولوجود النظم الاجتماعية التي تؤدي نفس هذا الدور، ولأن الظروف الحضرية تؤدي إلى نمو فكرة الأسرة، ونمو كل ما هو خاص ومتعلق بمصلحة الشخص عما هو متعلق بالجماعة من حقوق.
          ويضيف سبب آخر،  وهو ظهور الصداقة والمحبة والأيديولوجيا السياسية كمصدر للعصبة في المجتمعات الحضرية، بجانب المصاهرة والنسب الصريح والولاء والحلف.

          سؤال أخير،  هل هناك علاقة بين أمراض العصر وبين ضعف العلاقات الحميمة بين الأقارب؟
          نعم،  هذا ما يؤكده علم النفس المعاصر،  وهو أن هناك علاقة بين أمراض العصر، وبين ضعف العلاقات الحميمة بين الأقارب.
          فقد اكتشف فريق (لنش) أستاذ علم النفس ومدير العيادات النفسية - كلية الطب - جامعة ماريلاند،  عن طريق استخدام تقنية الدماغ الإلكتروني، أن ضغط الدم يرتفع بنسبة تتراوح بين 40، و50 %  إن كنت تتحدث مع غرباء !
          وقد أثبت الأستاذ (لنش) بالأدلة الدامغة في كتابه "القلب الكسير" أن العلاقات السعيدة مع الأقارب والأصدقاء وبين الزوجين، لا تفيد الصحة العقلية فحسب، بل ربما تقي المرء من أمراض القلب، أحد أخطر أمراض العصر.
          وتنسب إحدى المتخصصات في علوم الأسرة، سبب كثرة مشاكل ومعاناة الأولاد وتربيتهم الآن في مجتمعاتنا العربية ، إلى الأسرة النووية (المكونة من الأب والأم والآولاد)، والتي لم تكن موجودة في الأسرة العربية الممتدة قديماً، والتي كانت مكونة من أب وأم وأولاد وجد وجدة.  
          فالأقارب يلعبون دورا هاما في حياة الفرد كما أثبت العلم الحديث،  ومن قبل أحاط الدين الإسلامي العلاقات بين الأقارب (الأرحام) بكثير من القدسية.
          بقى أن نعرف من هو القريب كما يعرفه ابن خلدون في مقدمته، كأجمل تعريف عرفته حتى الآن.  وهو أن القريب هو من يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه، أو العداء عليه، ويودّ لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك : نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا. 

          إذن القريب ليس ذلك الذي يرى الظلم الذي يقع عليك، فيقف ساكتا.  وليس القريب الذي يعرف بالمصائب التي تحيطك ولا تدري عنه شئ ،  فلا يحذرك أو يتعاون معك لدرئه عنك.  بل هو من تصيبه غصة عندما يراك مظلوما،  ويدافع عنك إذا كثرة الأعادي حولك.  وهو الذي يقف حائلا بين المصائب والمهالك التي قد تصيبك.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق