الثلاثاء، 1 سبتمبر 2015


الجندى المجهول

من المهندس/ سيد شرف

خواطر راودتنى ، وأحاسيس غالبتنى ، ومشاعر حركتنى .. فأمسكت بقلمى ، وقلبت صفحات ذاكرتى ، وتذكرت صفاء الابتداء ، وصياغة الأوفياء ، وصناعة السابقين ، وتاريخ المخلصين ممن قضوا نحبهم وهم أوفياء لدينهم ودعوتهم وبيعتهم ، فوجدت أكثرهم نفعا وتأثيرا... غرباء ، أو ان شئت فقل " الجندى المجهول " .

ولكن سرعان ما انسالت الكلمات يسطرها القلم ، تاريخ عظيم لا أجد له مثيل ، عظماء سطروا لنا معالم التاريخ ، دلنا عن وصفهم وأخبارهم وحالهم إمام المربين وحبيب المقتدين محمد الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم ، فقال : " طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه ، أشعث رأسه ، مغبر قدماه ، يطير على ظهره عند كل هيعة " ( رواه البخارى ) ، غايته مرضاة ربه .. قدوته النبى وصحبه .. منطلقه دستور ربه .. سبيله الجهاد .. أسمى ما يتمناه الموت فى سبيل دينه وربه .

ومن أخص وصفه : ما بينه حبيب ربه صلى الله عليه وسلم : " إن من أغبط أوليائى عندى لمؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة ، أحسن عبادة ربه وكان غامضا فى الناس ، لا يشار إليه بالأصابع فعجلت منيته ، وقل تراثه وقلت بواكيه " ( ذكره المقدسى فى منهاج القاصدين )  .

هل رأيتم هذه الصفات العجيبة ؟ إنها والله تنطبق على معظم أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم ، ( لمؤمن خفيف الحاذ ) أى خفيف المسئولية والمؤنة ،

( غامض فى الناس ) فلا تسلط عليه الأضواء ، ولا يسمع عنه الناس ، بل مجهول فى وسطهم . ( لا يشار إليه بالأصابع ) فلا يقال هذا فلان بن فلان ( فعجلت منيته ) فى الجهاد فى سبيل الله ، يلقى بنفسه فى غمرات الموت لا يهاب ، ( وقل تراثه وقلت بواكيه ) لأنه يموت فى الغربة ، كأمثال حمزة بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد مات قرب المدينة ليس له باك يبكى عليه من زوجة أو ولد ، حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " لكن حمزة لا بواكى له " ( رواه أحمد وابن ماجة ) كذلك مات جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه على حدود الروم ولم يبكه أحد ، فهم وأمثالهم عاشوا غرباء وماتوا غرباء فى سبيل الله رب العالمين .

وأمثال هؤلاء أبكوا خليفة رسول الله الفاروق ، حين فتحت نهاوند فى أقاصى الشرق وسأل عمن استشهد من الصحابة ؟

فقيل : النعمان بن مقرن ، وفلان وفلان من القادة ، وبعض الجند لا يعرفهم أحد ، فبكى عمر بن الخطاب رضى الله عنه وجثا بركبتيه على الأرض ، وقال : إياك أن تقول لا يعرفهم أحد ، لا يضرهم إن كان لا  يعرفهم عمر بن الخطاب ويعرفهم الله الذى فى سابع سمائه ...

معاذ يبكى .. والفاروق يسأل .. ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن  ؟ هلك أخوك ؟ قال لا . ولكن حديث حدثنيه حبيبى صلى الله عليه وسلم وأنا فى هذا المسجد فقال :

ما هو ؟ قال : إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء ، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يعرفوا . قلوبهم مصابيح الهدى . يخرجون من كل فتنة عمياء مظلمة .

وبكاء معاذ .. هو نفس  ما أبكى عمر حين سأل عن شهداء نهاوند .

هؤلاء غرباء لأنهم طلاب آخرة .. لا طلاب دنيا .. طلاب آخرة .. لا طلاب مكانة ومنصب .. طلاب آخرة .. لأنهم حطوا رحالهم هناك "  لموضع سوط فى الجنة خير من الدنيا وما فيها " ( رواه الترمذى ) .

يقول إبراهيم بن أدهم : ما صدق الله من أحب الشهرة .

وقال ابن مسعود : كونوا ينابيع العلم ، مصابيح الهدى ، أحلاس البيوت ، سرج الليل ، جدد القلوب ، خلقان الثياب ، تعرفون فى أهل السماء وتخفون فى أهل الأرض .

فالعمل الصامت عند المخلص أحب إليه من العمل الذى يحفه ضجيج الإعلان وطنين الشهرة ، ورحمة الله على من قال : كونوا عبادا قبل أن تكونوا قوادا تصل بكم العبادة إلى أحسن القيادة .

إن المخلص يستوى عنده العمل ... قائدا معروفا أو جنديا مغمورا ، فكلا الدورين يبتغى بهما وجه الله تعالى .

ورحم الله خالد بن الوليد .. المنتصر الفاتح الذى لا يشق له غبار ، يأتيه أبو عبيدة ابن الجراح بخبر عزله عن القيادة .. فيقدمه فرحا بتخفيف الله ، ويعلن صدق إخلاصه بحسن نصحه وإرشاده للقائد الجديد ،  فالكل فى سفينة لا يهم من القبطان ... ولكن تأمين المسير هو السبيل  لبلوغ شاطىء الأمان .

فكلمة الإخلاص هى التى تسوى بين الرؤس لا فرق بين أبيض ولا أسود ولا عربى ولا عجمى إلا بالتقوى . . يستوى مع ذلك القيادة والجندية .

هذا هو الجندى المجهول .. الذى بموته تستمر الحياة ، وبتاريخه تبنى الأمم حضارتها ، وبذكراه تتوالد الأجيال بعد الأجيال ، وبتاريخه العزة والنصر والكرامة والإباء .

وصدق الله إذ يقول : " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا " ( سورة الأحزاب آية 23 ) .

منقول عن أكاديمية البنيان المرصوص

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق