"سبني" النوبي
يقدم أعظم وأول وأقدم سلوك أخلاقي في التاريخ !
في كتابه "فجر الضمير"([1]) يدلل المؤرخ جيمس هنري برستيد على أن مصر اصل حضارة العالم ومهدها الأول, بأن في مصر شعر الإنسان لأول مرة بنداء الضمير, فنشأ الضمير الإنساني بمصر وترعرع, وبها تكونت الأخلاق النفسية. وقد أخذ يعالج تطور موضوع الأخلاق منذ أقدم العهود الإنسانية, إلى أن انطفأ قبس الحضارة في مصر حوالي عام 525 ق.م [2].
وجدير بالذكر أن نوجه نظر القارئ إلى أن المؤرخ وهو يتنقل بين أدلته وتحقيقاته, إن صح هذا التعبير, لم يضع فاصلاً بين أرض وادي النيل في مصر أو النوبة.
والكتاب الذي يقع في ما يقارب من 500 صفحة, وهو بحث علمي عظيم, ويحتاج إلى صبر عظيم لقراءته, وهو نتاج لعالم درس تاريخ الشرق القديم عامة, وأنفق في سبيله ما يربو على مليون جنيه, ولا يمكن تلخيصه لمجلة متنوعة دون إخلال, لذلك فالأفضل للقارئ المهتم بهذا الموضوع الرجوع إلى الكتاب الأصلي.
نعرف من البداية أن ما دعاه إلى كتابة بحثه هو أن الفكر الذي ساد في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية أخذ يصور أن الإنسان لم يتورع يوماً ما عن استعمال قوته الآلية للفتك بأبناء جنسه, وأن المبدأ هو الصراع من أجل البقاء, وأن الغاية تبرر الوسيلة, وأن المادة هي أصل الوجود, وغيرها من الأفكار التي تلغي وجود الضمير في الفكر الإنساني منذ الخليقة! حتى أن هذا الفكر قسم تاريخ حياة الإنسان إلى عصور مادية عدة : العصر الحجري, وعصر استعمال النحاس, وعصر استعمال البرونز, وعصر استعمال الحديد ! فجاء كتابه هذا يثبت أنه إذا كان قوة الإنسان الآلية كانت نتاج تطور طويل, فإن هذا الشيء ينطبق على القوة الاجتماعية التي نسميها الضمير أيضاً.
ويرى أنه مرّ على الإنسان فترة من الزمن كان لا يحس فيها مطلقاً بعنصر السلوك أو الأخلاق, وذلك حينما كان كل ما يأتيه من الأعمال يأتي عن طريق الغريزة. لذلك يعد شعوره لأول مرة بالأخلاق تقدماً هائلاً في حياة البشر. وصار هذا التقدم أعظم خطراً عندما سما الإنسان إلى درجة أدرك فيها أن من السلوك ما يستحسن وما يستهجن. ولما أخذ الضمير في النمو أصبح في النهاية قوة اجتماعية عظيمة, وصار له بدوره أثر في ذلك المجتمع الذي أخرجه من قبل إلى عالم الوجود.
نعود إلى مصر القديمة, حيث شعر المصري في عصر الأهرام بوجود جو من الوازع الخلقي, وساد الاعتقاد بأن حق كل فرد في التحلي بالأخلاق الفاضلة يمكن أن يقوم على أساس النهج والسلوك اللذين يعامل بهما أفراد أسرته, وهم والده ووالدته واخوته وإخوانه. وقد أكدها لنا أحد أشراف رجال الوجه القبلي, إذ قال في نقوش قبره "إني لا أقول كذباً لأني كنت إنساناً محبوباً من والده, ممدوحاً من والدته, حسن السلوك مع أخيه, ودوداً لأخته".
وفي هذا الصدد, " لدينا حالة أخرى أعظم من هذه في بر الابن بأبيه أيضاً, وهي قصة "سبني (وتعني حارس الباب الجنوبي) أي المحافظ على الحدود المصرية من جهة السودان عند شلال النيل الأول, فقد حدث أن "مخو" والد "سبني" قد قام برحلة خطيرة في قلب السودان طلباً للاتجار, وهناك انقض عليه بعض القوم من الهمج وذبحوه. فلما سمع ابنه "سبني" بذبح والده قام على الفور برحلة تحفها المخاطر في قلب ذلك الإقليم المعادي, واستخلص منه جثمان والده بعد أن تعرضت حياته خلال ذلك للموت, وأحضر جثمان والده ليحفظ في مصر. ولا يزال قبر "سبني" باقياً في أسوان حتى الآن" (ص 132).
يقدم أعظم وأول وأقدم سلوك أخلاقي في التاريخ !
في كتابه "فجر الضمير"([1]) يدلل المؤرخ جيمس هنري برستيد على أن مصر اصل حضارة العالم ومهدها الأول, بأن في مصر شعر الإنسان لأول مرة بنداء الضمير, فنشأ الضمير الإنساني بمصر وترعرع, وبها تكونت الأخلاق النفسية. وقد أخذ يعالج تطور موضوع الأخلاق منذ أقدم العهود الإنسانية, إلى أن انطفأ قبس الحضارة في مصر حوالي عام 525 ق.م [2].
وجدير بالذكر أن نوجه نظر القارئ إلى أن المؤرخ وهو يتنقل بين أدلته وتحقيقاته, إن صح هذا التعبير, لم يضع فاصلاً بين أرض وادي النيل في مصر أو النوبة.
والكتاب الذي يقع في ما يقارب من 500 صفحة, وهو بحث علمي عظيم, ويحتاج إلى صبر عظيم لقراءته, وهو نتاج لعالم درس تاريخ الشرق القديم عامة, وأنفق في سبيله ما يربو على مليون جنيه, ولا يمكن تلخيصه لمجلة متنوعة دون إخلال, لذلك فالأفضل للقارئ المهتم بهذا الموضوع الرجوع إلى الكتاب الأصلي.
نعرف من البداية أن ما دعاه إلى كتابة بحثه هو أن الفكر الذي ساد في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية أخذ يصور أن الإنسان لم يتورع يوماً ما عن استعمال قوته الآلية للفتك بأبناء جنسه, وأن المبدأ هو الصراع من أجل البقاء, وأن الغاية تبرر الوسيلة, وأن المادة هي أصل الوجود, وغيرها من الأفكار التي تلغي وجود الضمير في الفكر الإنساني منذ الخليقة! حتى أن هذا الفكر قسم تاريخ حياة الإنسان إلى عصور مادية عدة : العصر الحجري, وعصر استعمال النحاس, وعصر استعمال البرونز, وعصر استعمال الحديد ! فجاء كتابه هذا يثبت أنه إذا كان قوة الإنسان الآلية كانت نتاج تطور طويل, فإن هذا الشيء ينطبق على القوة الاجتماعية التي نسميها الضمير أيضاً.
ويرى أنه مرّ على الإنسان فترة من الزمن كان لا يحس فيها مطلقاً بعنصر السلوك أو الأخلاق, وذلك حينما كان كل ما يأتيه من الأعمال يأتي عن طريق الغريزة. لذلك يعد شعوره لأول مرة بالأخلاق تقدماً هائلاً في حياة البشر. وصار هذا التقدم أعظم خطراً عندما سما الإنسان إلى درجة أدرك فيها أن من السلوك ما يستحسن وما يستهجن. ولما أخذ الضمير في النمو أصبح في النهاية قوة اجتماعية عظيمة, وصار له بدوره أثر في ذلك المجتمع الذي أخرجه من قبل إلى عالم الوجود.
نعود إلى مصر القديمة, حيث شعر المصري في عصر الأهرام بوجود جو من الوازع الخلقي, وساد الاعتقاد بأن حق كل فرد في التحلي بالأخلاق الفاضلة يمكن أن يقوم على أساس النهج والسلوك اللذين يعامل بهما أفراد أسرته, وهم والده ووالدته واخوته وإخوانه. وقد أكدها لنا أحد أشراف رجال الوجه القبلي, إذ قال في نقوش قبره "إني لا أقول كذباً لأني كنت إنساناً محبوباً من والده, ممدوحاً من والدته, حسن السلوك مع أخيه, ودوداً لأخته".
وفي هذا الصدد, " لدينا حالة أخرى أعظم من هذه في بر الابن بأبيه أيضاً, وهي قصة "سبني (وتعني حارس الباب الجنوبي) أي المحافظ على الحدود المصرية من جهة السودان عند شلال النيل الأول, فقد حدث أن "مخو" والد "سبني" قد قام برحلة خطيرة في قلب السودان طلباً للاتجار, وهناك انقض عليه بعض القوم من الهمج وذبحوه. فلما سمع ابنه "سبني" بذبح والده قام على الفور برحلة تحفها المخاطر في قلب ذلك الإقليم المعادي, واستخلص منه جثمان والده بعد أن تعرضت حياته خلال ذلك للموت, وأحضر جثمان والده ليحفظ في مصر. ولا يزال قبر "سبني" باقياً في أسوان حتى الآن" (ص 132).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق