الجندى المجهول
من المهندس/ سيد شرف
خواطر راودتنى
، وأحاسيس غالبتنى ، ومشاعر حركتنى .. فأمسكت بقلمى ، وقلبت صفحات ذاكرتى ، وتذكرت
صفاء الابتداء ، وصياغة الأوفياء ، وصناعة السابقين ، وتاريخ المخلصين ممن قضوا
نحبهم وهم أوفياء لدينهم ودعوتهم وبيعتهم ، فوجدت أكثرهم نفعا وتأثيرا... غرباء ،
أو ان شئت فقل " الجندى المجهول " .
ولكن سرعان ما
انسالت الكلمات يسطرها القلم ، تاريخ عظيم لا أجد له مثيل ، عظماء سطروا لنا معالم
التاريخ ، دلنا عن وصفهم وأخبارهم وحالهم إمام المربين وحبيب المقتدين محمد الصادق
الأمين صلى الله عليه وسلم ، فقال : " طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه ، أشعث رأسه
، مغبر قدماه ، يطير على ظهره عند كل هيعة " ( رواه البخارى ) ، غايته مرضاة
ربه .. قدوته النبى وصحبه .. منطلقه دستور ربه .. سبيله الجهاد .. أسمى ما يتمناه
الموت فى سبيل دينه وربه .
ومن أخص وصفه :
ما بينه حبيب ربه صلى الله عليه وسلم : " إن من أغبط أوليائى عندى لمؤمن خفيف
الحاذ ذو حظ من صلاة ، أحسن عبادة ربه وكان غامضا فى الناس ، لا يشار إليه
بالأصابع فعجلت منيته ، وقل تراثه وقلت بواكيه " ( ذكره المقدسى فى منهاج
القاصدين ) .
هل رأيتم هذه
الصفات العجيبة ؟ إنها والله تنطبق على معظم أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم ، (
لمؤمن خفيف الحاذ ) أى خفيف المسئولية والمؤنة ،
( غامض فى
الناس ) فلا تسلط عليه الأضواء ، ولا يسمع عنه الناس ، بل مجهول فى وسطهم . ( لا
يشار إليه بالأصابع ) فلا يقال هذا فلان بن فلان ( فعجلت منيته ) فى الجهاد فى
سبيل الله ، يلقى بنفسه فى غمرات الموت لا يهاب ، ( وقل تراثه وقلت بواكيه ) لأنه
يموت فى الغربة ، كأمثال حمزة بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد
مات قرب المدينة ليس له باك يبكى عليه من زوجة أو ولد ، حتى أن الرسول صلى الله
عليه وسلم قال : " لكن حمزة لا بواكى له " ( رواه أحمد وابن ماجة ) كذلك
مات جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه على حدود الروم ولم يبكه أحد ، فهم وأمثالهم
عاشوا غرباء وماتوا غرباء فى سبيل الله رب العالمين .
وأمثال هؤلاء
أبكوا خليفة رسول الله الفاروق ، حين فتحت نهاوند فى أقاصى الشرق وسأل عمن استشهد
من الصحابة ؟
فقيل : النعمان
بن مقرن ، وفلان وفلان من القادة ، وبعض الجند لا يعرفهم أحد ، فبكى عمر بن الخطاب
رضى الله عنه وجثا بركبتيه على الأرض ، وقال : إياك أن تقول لا يعرفهم أحد ، لا
يضرهم إن كان لا يعرفهم عمر بن الخطاب
ويعرفهم الله الذى فى سابع سمائه ...
معاذ يبكى ..
والفاروق يسأل .. ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن
؟ هلك أخوك ؟ قال لا . ولكن حديث حدثنيه حبيبى صلى الله عليه وسلم وأنا فى
هذا المسجد فقال :
ما هو ؟ قال :
إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء ، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا
لم يعرفوا . قلوبهم مصابيح الهدى . يخرجون من كل فتنة عمياء مظلمة .
وبكاء معاذ ..
هو نفس ما أبكى عمر حين سأل عن شهداء
نهاوند .
هؤلاء غرباء
لأنهم طلاب آخرة .. لا طلاب دنيا .. طلاب آخرة .. لا طلاب مكانة ومنصب .. طلاب
آخرة .. لأنهم حطوا رحالهم هناك "
لموضع سوط فى الجنة خير من الدنيا وما فيها " ( رواه الترمذى ) .
يقول إبراهيم
بن أدهم : ما صدق الله من أحب الشهرة .
وقال ابن مسعود
: كونوا ينابيع العلم ، مصابيح الهدى ، أحلاس البيوت ، سرج الليل ، جدد القلوب ،
خلقان الثياب ، تعرفون فى أهل السماء وتخفون فى أهل الأرض .
فالعمل الصامت
عند المخلص أحب إليه من العمل الذى يحفه ضجيج الإعلان وطنين الشهرة ، ورحمة الله
على من قال : كونوا عبادا قبل أن تكونوا قوادا تصل بكم العبادة إلى أحسن القيادة .
إن المخلص
يستوى عنده العمل ... قائدا معروفا أو جنديا مغمورا ، فكلا الدورين يبتغى بهما وجه
الله تعالى .
ورحم الله خالد
بن الوليد .. المنتصر الفاتح الذى لا يشق له غبار ، يأتيه أبو عبيدة ابن الجراح
بخبر عزله عن القيادة .. فيقدمه فرحا بتخفيف الله ، ويعلن صدق إخلاصه بحسن نصحه
وإرشاده للقائد الجديد ، فالكل فى سفينة
لا يهم من القبطان ... ولكن تأمين المسير هو السبيل لبلوغ شاطىء الأمان .
فكلمة الإخلاص
هى التى تسوى بين الرؤس لا فرق بين أبيض ولا أسود ولا عربى ولا عجمى إلا بالتقوى .
. يستوى مع ذلك القيادة والجندية .
هذا هو الجندى
المجهول .. الذى بموته تستمر الحياة ، وبتاريخه تبنى الأمم حضارتها ، وبذكراه
تتوالد الأجيال بعد الأجيال ، وبتاريخه العزة والنصر والكرامة والإباء .
وصدق الله إذ
يقول : " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه
ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا " ( سورة الأحزاب آية 23 ) .
منقول عن أكاديمية البنيان المرصوص
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق