صدفة قد تتكرر عند الكثيرين، وهو قراءة رأيين متعارضين في موضوع واحد لكاتبين ربما لم يقصد التالي دحض آراء المتقدم عليه، وربما لم يقرأ كتابه أصلا.
الموضوع هو الطاعة
والكتاب الأول هو "الإسلام عقيدة وشريعة" للإمام الأكبر محمود شلتوت (1893م - 1963م)، بدون تاريخ.
والكتاب الثاني هو كتاب العربي "خطاب إلى العقل العربي - مرض اسمه الطاعة" للدكتور فؤاد زكريا - 15 أكتوبر 1987 (تذكروا هذا التاريخ) .
طاعة الوالدين دليل تخلف ؟!
نبدأ بالكتاب الأخير، حيث يرى د. فؤاد زكريا أن الطاعة تأتي على رأس الأسباب المعنوية لتخلفنا وتراجعنا واستسلامنا، بل هي رذيلتنا الأولى، وفيها تتبلور سائر عيوبنا ونقائصنا. ويورد صورا من الطاعة مثل:
"طاعة الوالدين" . و "طاعة المرأة لزوجها" .
ويعتبرهما مما تفرضه التقاليد الاجتماعية؟!
أشكال أخرى من الطاعة:
ثم يضيف أشكالا تندرج تحت مفهوم الطاعة مثل :
- إجابة التلاميذ لامتحانات أساتذتهم حرفيا كما في الكتاب المقرر
- وطاعة المرؤوس لرئيسه
- ثم طاعة المحكوم للحاكم
والدكتور زكريا لا يرى ضرورة للطاعة إلا في النظام العسكري، حيث ثبت "فعاليته في المهمة الأساسية التي تضطلع بها الجيوش وهى القتال في سبيل الوطن". ويستدل على هذه الفعالية وحقيقتها على "أن معظم جيوش العالم كانت وما تزال تأخذ به"؟!
المتمردون والإنجازات :
ويخلص من ذلك كله، أن أعظم إنجازات الإنسان لم تتحقق إلا على أيدي أولئك الذين رفضوا أن يكونوا مطيعين ؟!
مقدمة الرد:
ودارس الفلسفة، والدكتور فؤاد زكريا أستاذ بل من أكبر أساتذتها، لا يستطيع أن يتحرر من قيود الأفلاطونية (1) التي تحاول أن تصيغ مبدءا أو قانونا عاما يكون صالحا للتطبيق أو لتفسير كل شيء في الوجود .. الفكر .. الواقع .. الروح .. المادة، ثم يجلس مرتاحا، لأنه هكذا قد نظم الكون كله؟!
تمرد رجعي:
قد يبدو للبعض أن رفض القواعد الاجتماعية فكرة تقدمية، أو أنها من إبداع د.فؤاد زكريا. ولهؤلاء البعض نسوق لهم ما كان يعتقده السفسطائيين أمثال بروتاجوراس وتراسيماخوس وغيرهم ( من أكثر من 500 سنة ق.م) " أن المدينة ليست نظاما طبيعيا، وإنما هي نظام صناعي. ويترتب على ذلك أن القوانين والقيم والعادات أمور تعود إلى الاصطلاحات البشرية فحسب" (2). ويعني ذلك أننا نستطيع أن نغير الأوضاع والعلاقات في المجتمع وقتما نريد، وأنه ليست هناك قيم ثابتة.
وهذه النظرة (القديمة) واضحة في مقالة د. فؤاد زكريا.
1) طاعة المحكوم للحاكم:
إن قارئ مقالة د. زكريا يستطيع، وبسهولة، أن يدرك أن وراء ذكر أشكال عديدة من الطاعات هدفه هو رفض طاعة المحكوم للحاكم. وإذا كنت أريد في هذه المقالة أن أرد على هذه الجزئية، إلا أن هذا لا يمنع من الرد على الأشكال الأخرى في ثنايا المقالة.
يقول فضيلة الشيخ محمود شلتوت في شئون الدولة(الكتاب الأول المذكور أعلاه) عن القيادة في الحياة: "أن شئون الأمة متعددة بتعدد عناصر الحياة، وأن الله قد وزع الاستعداد الإدراكي على الأفراد حسب تنوع الشئون، وصار لكل شأن بهذا التوزيع رجال، هم أهل معرفته، ومعرفة ما يجب أن يكون عليه، ولكل جانب رجال عرفوا فيه بنضج الآراء وعظيم الآثار وطول الخبرة والمران" (3)
كما يقول في ضرورة وجود رئيس على أي جماعة، ضرورة اجتماعية، يفرضها التجمع الإنساني:" ليس من الحكمة في نظر شرع أو وضع أن يترك مجتمع دون أن يعرف له رئيس يرجع إليه في الرأي، عند الاختلاف، وفي مهام الشئون. فذا تصور مجتمع على هذا النحو، ليس له محور يدور حوله ويعتصم به، فهو مجتمع مآله حتما إلى السقوط والانحلال. مجتمع صائر لا محالة إلى الفوضى والاضطراب بالتنازع والتضارب وتناقض الرغبات. وبذلك ينقلب المجتمع رأسا على عقب، تتفكك وحداته، وتتناثر لبناته، وتضيع الثمرات التي عقدت به، وأنشئ سبيلا للحصول عليها."
وهو في هذا يتفق مع السنة النبوية. قال رسول الله (ص) :" لا يحل لثلاثة يكونون في فلاة من الأرض، إلا أمروا عليهم أحدهم".
فوجود جماعة، وعلى الجماعة حاكم، ضرورة حتمية. ولك أن تتصور أن دولة مثل الصين (وعدد سكانه يربو على المليار ونصف) تريد أن تعقد اتفاقية مع دولة أخرى، وليس عليها رئيس، بالله من يستطيع فردا كان أو جماعة أن يعقد مثل هذا الاتفاق مع المليار من السكان؟!
نحن عرب ونعيش في منطقة عربية، ولم أقرأ يوما أن مفكرا عربيا أو مسلما قال بالطاعة العمياء للحاكم، كما أراد د. زكريا أن يلصقها بنا نحن العرب.
الدين الإسلامي، وهو روح هذه الأمة، يقرر أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. سواء كان هذا المخلوق أبا أو أما أو زوجا أو مدرسا أو حاكما. قال تعالى في سورة النساء :
" يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم".
والمعنى واضح في أن طاعة أولي الأمر مرتبطة بطاعتهم لله ورسوله.
ونرى رفض الطاعة العمياء في فكرنا الإسلامي فيما قالته المعتزلة من أن "الأمة لا يجوز عليها الخطأ .. والإمام إذا أخطأ، فعلماء الأمة يأخذون على يده لأنا لا نجوز على جميعهم الخطأ."
وإذا كان السلطان مفسدا وكل الناس ليسوا خلقاء باحتمال الإقبال والرفعة كما يقول أرسطو. كما أن بعض الناس ينظر إلى الحاكم نظرة متوجسة دائما ويبتعدون عنها.
فالمفكرون والزعماء العرب لم يفتهم هذا. كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري قائلا:
"أما بعد، فان للناس نفرة عن سلطانهم، فأعوذ بالله أن تدركني وإياك عمياء مجهولة وضغائن محمولة، أقم الحدود ولو ساعة من نهار".
2) طاعة التلميذ لأستاذه:
وفي تفسير معنى طاعة التلميذ لمدرسه، قال جابر بن حيان (721 - 815 م): ".. أما ما يجب للأستاذ على التلميذ، فهو أن يكون التلميذ لينا، متقبلا لجميع أقواله من جميع جوانبه، لا يعترض في أمر من الأمور، فان ذخائر الأستاذ العلم، ولا يظهرها للتلميذ إلا عند السكون إليه. ولست أريد بطاعة التلميذ للأستاذ أن تكون طاعة في شئون الحياة الجارية، بل أريدها طاعة في قبول تعلم الدرس وترك التعامل".
عبارات واضحة ومفهومة لجابر بن حيان، ولا تخرج عما شرعه الدين الإسلامي.
3) حقيقة المتمردين والإنجازات:
نأت إلى مقولة د. زكريا الأخيرة وهى: "أكاد أقول أن أعظم إنجازات الإنسان لم تتحقق إلا على أيدي أولئك الذين رفضوا أن يكونوا مطيعين".
هذه المقولة ليست مطلقة، كما أن قليلا من العلماء يدعي أنه البداية وكلنا يعلم أن علم الفيزياء أكثر العلوم التي استقطبت أعظم إنجازات الإنسان. ومع ذلك نلاحظ كما تقول د. نازلي إسماعيل :
"أن النسق العلمي في هذا العلم، قد تكون بالجمع بين القوانين العلمية. مثال ذلك. أن جاليليو اكتشف قانون سقوط الأجسام والسرعة الملازمة له. وكان ذلك بالنسبة للأجسام الفيزيائية. ثم اكتشف كبلر من بعده، حركات الكواكب وصاغها في ثلاث قوانين. وبعد ذلك، جاء نيوتن ليجمع بين قوانين جاليليو وكبلر، وليضيف إليها، قانون الجاذبية ليفسر بها حركة المد والجذر " (4)
وكذلك يلاحظ "أن نظرية النسبية تعتبر أعم من نظرية الجاذبية، لأنها لا تنطبق على الأجسام الجامدة فقط، إنما تنطبق أيضا على الضوء والطاقة بكافة أشكالها. ولقد تضمنت نظرية النسبية نظريات أخرى غير الجاذبية، مثل الكهرمغناطيسية ونظريات أخرى حديثة في نظام الفلك. وبدون هذه النظريات المختلفة أو المقدمات الضرورية، ما كان من الممكن ظهور نظرية النسبية"(5)
هذا "وفي كل يوم يكتشف العلماء في معاملهم ظواهر جديدة، ولكن لا يستطيع عالم واحد بمفرده أن ينشئ علما، كما يضع الفيلسوف فلسفته الخاصة. إن كل نظرية علمية، تستند إلى نظريات سابقة. فمثلا وضع مكسويل قوانين الكهرباء ابتداء من قوانين أمبير في الالكتروديناميكا، كما أن قوانين أمبير كانت بدورها تستند إلى قوانين أورشتد"(6).
الخاتمة
أفكار سوداء:
أتساءل، وأرى أن من حقي أن أتساءل كانسان عربي:
إلى ماذا يهدف مفكر عربي مثل د. زكريا بمقالته هذه؟
هل يهدف إلى خير هذه الأمة؟ أم إلى الشر؟
هل يهدف إلى انتشال هذه الأمة من سباتها؟ أم يهدف إلى إغراقها وأن يردي بها إلى المهالك؟
إن تاريخ الفكر الإنساني يحمل الأفكار الخيرة، كما يحمل الأفكار الشريرة. يحمل الأفكار التي قبلتها الإنسانية، ويحمل كذلك الأفكار المرفوضة. فإلى أي فريق تنتمي أفكار د. زكريا ؟
أشك في أن يكون التاريخ سجل في عصر من العصور السابقة أنه قد أعتدي فيها على حقوق الوالدين أو الزوج أو الأستاذ أو الحاكم أكثر مما اعتدى عليها في عصرنا هذا، وفي المنطقة إلى نعيش فيها.
لا عليك إلا أن تقرأ صفحات الجرائم في الصحف، لترى الجرائم التي ارتكبها ويرتكبها الأبناء ضد أحد الوالدين أو ضد كليهما معا.
لا عليك إلا أن تشاهد المسرحيات التي تعرض علينا في التليفزيون، لترى وتسمع عبارات الاستهزاء من تلاميذ لأستاذهم، حتى أنه يؤرخ لبداية سقوط هيبة المدرس وشغب التلاميذ في مصر بمسرحية علي سالم الشهيرة "مدرسة المشاغبين".
لا عليك إلا أن ترجع إلى قوانين الأحوال الشخصية في مصر والتي أطلق عليها الكاتب الساخر أحمد رجب بقانون "الأهوال الشخصية"، لترى كيف اعتدى على حقوق الزوج والأب. علما أن العلماء كانوا إلى وقت قريب يستدلون بأن الدولة تطبق الشريعة الإسلامية بدليل واحد ووحيد هو تطبيق الأحكام الشرعية في قانون الأحوال الشخصية.
وكمواطن مصري أليس من حقي أن أربط بين مقالة د. زكريا في أكتوبر 1987 وبين سلسلة قتل الأزواج في الأعوام التالية على هذا التاريخ ؟! (راجع الملف الكامل في مجلة سيدتي بعد هذا التاريخ).
وإذا كان تاريخ الفكر الإنساني يدلنا كذلك، أن المفكر يعبر عن عصره، أو هو نتاج عصره وبيئته. فأترك للقارئ وذكاؤه حرية أن يضع أفكار د. زكريا ممثلا لأي بيئة موجودة في عصرنا هذا وفي منطقتنا.
الرأي في الإسلام:
وأخيرا، لنا أن نتساءل :
هل آراء وأفكار د. زكريا - بعد الذي قرأناه وبالمعيار الإسلامي - يعتبر فكرا أو رأيا؟
يقول د. عبد الصبور مرزوق :" أن الحديث عن الرأي من المنظور الإسلامي يساوي الحديث عن الحياة، وحق الإنسان في الحرية يساوي حقه في الوجود. وإذا كان بعض الفلاسفة يقولون في شعاراتهم "أنت تفكر إذن أنت موجود". فأنا كمفكر مسلم أقول "أنت صاحب رأى إذن فأنت موجود .. وإذا كنت لا رأى لك، فوجودك وعدمه سواء".
والرأي في الإسلام يجب أن يكون منضبطا مع معايير الحق والعدل، بأن يكون بعيدا عن الباطل أو الظلم.. وإذا كان الرأي خارجا على ما أمر به الإسلام فليس برأي."(7).
سعيد كرار
المراجع:
(1) يقول د. حسن عبد الحميد عن مقولة أن الفلسفة بناء نسقي متكامل أنه يعني "أن تكون فلسفة الفيلسوف عبارة عن نظرة متكاملة يفسر بها كل ما يدور حوله من أمور، سواء تعلقت هذه الأمور بالفرد أو المجتمع أو الطبيعة. ويعزى إلى أفلاطون هذا الطابع لذي تطبعت به الفلسفة بعده" (من : مدخل إلى الفلسفة 1977 - ص 106 ).
(2) د. فيصل بدير عون - قراءات في الفلسفة السياسية - ص 87 .
(3) الإمام الأكبر محمود شلتوت - الإسلام عقيدة وشريعة - ص 443.
(4) د. نازلي إسماعيل حسين - التفكير العملي 1983 - ص 77
(5) نفس المصدر السابق ص 78
(6) نفس المصدر السابق ص 92
(7) مجلة "اللواء الإسلامي" - العدد 164 - السنة الرابعة - 14 مارس 1985 .
كذلك نعرف أن أرسطو رفض رأى أفلاطون القائل بإزالة الأسرة من مدينته الفاضلة للمحافظة على وحدة الدولة، وقال بأن الإنسان مدني بطبعه، "أى أنه يميل إلى الجماعة والى تكوين الأسرة كنظام طبيعي فطري وليس نظاما مصطنعا "(2 أعلاه).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق